حكايات حارتنا - نجيب محفوظ

    الحكاية رقم ((1))

    يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية . مثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية . أوراقها الخضر هي ينابيع
    تحميل ((حكايات حارتنا)) لنجيب محفوظ
    حكايات حارتنا - نجيب محفوظ
    الخضرة الوحيدة في حارتنا . وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة . وها هي التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة ، بوابتها مغلقة عابسة ، دائما مغلقة ، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة ن تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر.
    وأحيانا يلوح في الحديقة ذو لحية مرسلة وعباءة فضفاضة وطاقية مزركشة فنهتف كلنا.
    - ((يا درويش.. إن شاء الله تعيش)).
    ولكنه يمضي متأملا الأرض المعشوشبة أو يتمهل عند جدول ماء ، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلي.
    - من هؤلاء الرجال يا أبي؟
    - إنهم رجال الله..
    ثم بنبرة ذات معنى :
    - ملعون من يكدر صفوهم!
    - ولكن قلبي مولع بالتوت وحده.
    وينهكني اللعب ذات يوم فأجلس على الأرض لأستريح ثم أغفو . أستيقظ فأجدني وحيدا في الساحة ، حتى الشمس توارت وراء السور العتيق ، ونسائم الربيع تهبط مشبعة بأنفاس الأصيل . على أن أمرق من القبو إلى الحارة قبل أن يدلهم الظلام . وأنهض متوثبا ولكن إحساسا خفيا يساورني بأنني غير وحيد ، وأنني أهيم في مجال جاذبية لطيف ، وأن ثمة نظرة رحيبة تستقر على قلبي ، فأنظر ناحية التكية . هناك تحت شجرة التوت الوسيطة يقف رجل . درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبل. طاعن في الكبر ، مديد في الطول ، وجهه بحيرة من نور مشع . عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء ، وفخامته فوق كل تصور وخيال . ومن شدة حملقتي في أثمل بنوره فيملأ منظره الكون . وخاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان وولي الأمر ، وأنه ودود بخلاف الآخرين...

    ضع تعليق

سياسة الخصوصية | اتصل بنا | copyright 2013 © 2014 مجرة الكتب